قال الامام الكاظم عليه السلام

(( المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه ))

الأحد، 8 يناير 2012

إحسان الإمام الجواد ( عليه السلام ) ومواساته للناس

الإحسان إلى الناس والبرّ بهم من سجايا الإمام الجواد ( عليه السلام ) ومن أبرز مقوماته ، وقد ذكر الرواة بوادر كثيرة من إحسانه كان منها ما يلي :
1 - روى أحمد بن زكريّا الصيدلاني ، عن رجل من بني حنيفة من أهالي سَجِستان قال : رافقت أبا جعفر ( عليه السلام ) في السنة التي حجّ فيها في أوّل خلافة المعتصم ، فقلت له وأنا على المائدة : إنّ والينا جعلت فداك يتولاّكم أهل البيت ويحبّكم وعليّ في ديوانه خراج ، فإن رأيتَ جعلني الله فداك أن تكتب إليه بالإحسان إلي .
فقال ( عليه السلام ) : ( لا أعرفه ) .
فقلت : جعلت فداك إنّه على ما قلت ، من محبّيكم أهل البيت ، وكتابك ينفعني .
فاستجاب له الإمام ( عليه السلام ) فكتب إليه بعد البسملة : ( أمّا بعد : فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً ، وإن ما لك من عملك إلا ما أحسنت فيه ، فأحسن إلى إخوانك ، واعلم أنّ الله عزّ وجلّ سائلك عن مثاقيل الذرة والخردل ) .
ولما ورد إلى سجستان عرف الوالي ـ وهو الحسين بن عبد الله النيسابوري ـ أن الإمام قد أرسل إليه رسالة ، فاستقبله من مسافة فرسخين ، وأخذ الكتاب فقبّله ، واعتبر ذلك شرفاً له ، وسأله عن حاجته فأخبره بها .
فقال له : لا تؤدّ لي خراجاً ما دام لي عمل ، ثم سأله عن عياله فأخبره بعددهم .
فأمر له ولهم بصلة ، وظل الرجل لا يؤدي الخراج ما دام الوالي حيّاً ، كما أنه لم يقطع صلته عنه .
وكان كل ذلك ببركة الإمام ( عليه السلام ) ولطفه .

مواساته ( عليه السلام ) للناس :

واسى الإمام الجواد ( عليه السلام ) الناس في سَرّائهم وضَرّائهم ، فيقول المُؤرّخون : إنه قد جرت على إبراهيم بن محمد الهمداني مظلمة من قِبل الوالي ، فكتب إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) يخبره بما جرى عليه ، فتألم الإمام ( عليه السلام ) وأجابه بهذه الرسالة : ( عَجّل الله نُصرتك على من ظلمك ، وكفاك مؤنته ، وأبشِرْ بنصر الله عاجلاً إن شاء الله ، وبالآخرة آجلاً ، وأكثِر من حمد الله ) .
ومن مواساته ( عليه السلام ) للناس تعازيه للمنكوبين والمفجوعين ، فقد بعث ( عليه السلام ) رسالة إلى رجل قد فجع بفقد ولده ، وقد جاء فيها بعد البسملة : ( ذكَرتُ مصيبتَك بعليٍّ ابنك ، وذكرت أنه كان أحب ولدك إليك ، وكذلك الله عزّ وجلّ ، إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله ، ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة .
فأعظم الله أجرك ، وأحسن عزاك ، وربط على قلبك ، إنه قدير ، وعَجّل الله عليك بالخلف ، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله ) . وأعرَبَت هذه الرسالة الرقيقة عن مدى تعاطف الإمام ( عليه السلام ) مع الناس ، ومواساته لهم في السَرّاء والضَرّاء .
ومن مواساته ( عليه السلام ) للناس أن رجلاً من شيعته كتب إليه يشكو ما ألمَّ به من الحزن والأسى لفقد ولده ، فأجابه الإمام ( عليه السلام ) برسالة تعزية جاء فيها : ( أمَا علمتَ أن الله عزّ وجلّ يختار من مال المؤمن ، ومن ولده أنفسه ، ليؤجره على ذلك ) .
لقد شارك الإمام ( عليه السلام ) الناس في السَرّاء والضَرّاء ، وواساهم في فجائعهم ومِحَنهم ، ومدَّ يد المعونة إلى فقرائهم ، وضعفائهم .
وبهذا البرّ والإحسان احتلّ ( عليه السلام ) القلوب والعواطف ، وأخلص له الناس ، وأحبّوه كأعظم ما يكون الإخلاص والحُب .

أحاديث الإمام الجواد (عليه السلام) في الحكم والآداب

للإمام ( عليه السلام ) مجموعة من الكلمات الذهبية التي تُعدُّ من مناجم التراث الإسلامي ، ومن أروع الثروات الفكرية في الإسلام ، وقد حَفِلَت بأُصُول الحِكمة ، وقواعد الأخلاق ، وخُلاصَة التَجَارُب ، وفيما يلي نذكر أربعين حديثاً منها :
1ـ قال ( عليه السلام ) :( مَن شَتَمَ أُجِيب ، وَمَن تَهَوَّرَ أُصِيب ) .
2ـ وقال ( عليه السلام ) : ( العُلماء غُرباءٌ لِكَثرةِ الجُهَّال بَينهُم ) .
3ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن طلب البَقاء فَليُعدَّ لِلمصائِبِ قَلباً صَبُوراً ) .
4ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن عَمل بِغير عِلمٍ كان ما أَفسدَ أكثرَ مِمَّا أَصلحَ ) .
5ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَنِ استَفاد أخاً في اللهِ فقدِ استفادَ بيتاً في الجَنَّة ) .
6ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن أطاعَ هَواهُ أَعطَى عدوَّهُ مُنَاهُ ) .
7ـ وقال ( عليه السلام ) : ( رَاكِبُ الشَّهَوَات لا تُقَالُ عَثرتُهُ ) .
8ـ وقال ( عليه السلام ) : ( عِزُّ المُؤمنِ غِنَاهُ عَن النَّاسِ ) .
9ـ وقال ( عليه السلام ) : ( لا يَكُن وَليُّ الله في العَلانِيَة عَدوّاً لَهُ في السرِّ ) .
10ـ وقال ( عليه السلام ) : ( قَد عَاداكَ مَن سَتَر عنك الرُّشدَ إِتباعاً لِمَا يَهواهُ ) .
11ـ وقال ( عليه السلام ) : ( الحوائجُ تُطلبُ بالرجاءِ ، وهي تَنزلُ بالقَضَاء ) .
12ـ وقال ( عليه السلام ) : ( العَافِيةُ أَحسنُ عَطاءٍ ) .
13ـ وقال ( عليه السلام ) : ( إِذا نزلَ القضاءُ ضَاقَ الفَضاءُ ) .
14ـ وقال ( عليه السلام ) : ( التَحفُّظُ على قَدَرِ الخَوف ، والطمعُ عَلى قَدر النَّيلِ ) .
15ـ وقال ( عليه السلام ) : ( كَفى بالمرءِ خِيانةً أن يكون أمِيناً للخَوَنة ) .
16ـ وقال ( عليه السلام ) : ( الصبرُ عَلى المُصيبةِ مُصيبةٌ لِلشَّامِت ) .
17ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن أَملَ فَاجراً كَان أدنَى عقوبتِهِ الحِرمَان ) .
18ـ وقال ( عليه السلام ) : ( من أَخطأَ وجوهَ المَطالبِ خَذلتْهُ وجوهُ الحِيَل ) .
19ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَنِ استَحسنَ قبيحاً كان شريكاً فِيه ) .
20ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن كَتَم هَمُّهُ سَقَمَ جَسدُه ) .
21ـ وقال ( عليه السلام ) : ( لَو سَكَتَ الجاهلُ مَا اختلفَ النَّاسُ ) .
22ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَقتلُ الرجلِ بَين فَكَّيْهِ ) .
23ـ وقال ( عليه السلام ) : ( النَّاسُ أشكالٌ ، وَكلٌّ يعملُ عَلى شَاكِلَتِه ) .
24ـ وقال ( عليه السلام ) : ( كُفرُ النِّعمَةِ دَاعيةٌ للمَقْتِ ) .
25ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَن جَازَاكَ بِالشكر فقد أَعطاكَ أكثرَ مِمَّا أَخَذَ مِنك ) .
26ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا تُعَاجِلوا الأمرَ قَبل بُلوغه فَتَندَمُوا ، وَلا يَطولَنَّ عليكم الأملُ فَتَقسُوا قُلوبكم ، وَارحَمُوا ضُعفاءكم ، واطلبوا الرَّحمة مِن الله بِالرَّحمةِ مِنكم ) .
27ـ وقال ( عليه السلام ) : ( ثَلاثة يَبلُغْنَ بِالعبدِ رِضوانَ اللهِ تعالى : كِثرةُ الاستغفار ، وَلِينُ الجانب ، وَكِثرة الصَّدَقة ، وثلاث مَن كُنَّ فِيهِ لم يَندم : تَركُ العَجَلة ، وَالمَشُورة ، وَالتوكُّل على الله عِند العَزم ) .
28ـ وقال ( عليه السلام ) : ( كَيفَ يَضِيعُ مِن الله كَافِلُهُ ؟! ، وَكيفَ يَنجو من الله طَالِبُهُ ؟! ) .
29ـ وقال ( عليه السلام ) : ( يَومُ العدلِ على الظالِم أشبَهُ مِن يَوم الجَور عَلى المَظلوم ) .
30ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَا هَدَم الدينَ مِثلُ البِدَع ، وَلا أزالَ الوِقارَ مثلُ الطَمَع ، وبِالراعي تُصلَحِ الرعيَّة ، وَبِالدُّعاء تُصرَفِ البَلِيَّة ) .
31ـ وقال ( عليه السلام ) : ( اِعلَمُوا أنَّ التقوى عِزٌّ ، وأنَّ العِلم كنزٌ ، وأنَّ الصمتَ نورٌ ) .
32ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَا استَوَى رَجُلان في حَسَب ودين إلا كان أفضلُهُما عند الله أَأْدَبُهُمَا ) ... إلى أن قال ( عليه السلام ) : ( بِقِراءته القُرآنَ كما أُنزِل ، وَدعائِهِ اللهَ مِن حيثُ لا يُلحِن ، فَإنَّ الدعاءَ المَلحُونِ لا يَصعدُ إِلى اللهِ ) .
33ـ وقال ( عليه السلام ) : ( إِيَّاك ومصاحبةِ الشرير فإنَّه كالسيفِ المَسلُول ، يَحسُنُ منظرُهُ ، ويقبَحُ أَثرُه ) .
34ـ وقال ( عليه السلام ) : ( لا تُعادِي أحداً حتى تعرفُ الذي بينَهُ وبينَ الله ، فإن كان مُحسناً لم يُسَلِّمهُ إليك ، وإن كان مُسيئاً فَعلمُك بِه يُكفِيكَهُ ، فلا تُعادِهِ ) .
35ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَا شَكر الله أحدٌ على نعمةٍ أنعمَهَا عليه إلا استوجَبَ بذلك المَزيد قَبلَ أن يَظهرَ عَلى لسانِهِ ) .
36ـ وقال ( عليه السلام ) : ( اِصبر عَـلَى ما تَكرهُ فيما يلزمُكَ الحقُّ ، واصطَبِر عمَّا لا تُحِب فِيمَا يدعُوك إلى الهَوى ) .
37ـ وقال ( عليه السلام ) : ( مَوتُ الإنسانِ بالذنوبِ أكثر مِن مَوته بالأَجَل ، وَحياتُه بالبِرِّ أكثرُ من حياتِهِ بالعُمر ) .
38ـ وقال ( عليه السلام ) : ( أربعُ خِصالٍ تُعيِّنِ المَرءَ على العمل : الصحَّة ، والغِنَى ، والعِلم ، والتوفِيق ) .
39ـ وقال ( عليه السلام ) : ( العَامِل بالظلمِ ، والمُعينُ عليهِ ، والراضِي بهِ ، شُرَكَاءٌ ) .
40ـ وقال ( عليه السلام ) : ( النَّاس إِخوانٌ ، فَمَن كانت أُخُوَّتُهُ في غَير ذاتِ الله ، فَإنَّها تَعود عَداوةً ، وَذَلك قولُهُ عَزَّ وجلَّ : ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَ الْمُتَّقِينَ ) الزُخرُف : 67 .

شهادة الإمام محمد الجواد(عليه السلام)

اسمه ونسبه(عليه السلام)


الإمام محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)


أبو جعفر، ويقال له(عليه السلام) أيضاً: أبو جعفر الثاني؛ تمييزاً له عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أبو علي.

ألقابه(عليه السلام)


الجواد، التقي، الزكي، القانِع، المُرتضى، المُنتَجَب... وأشهرها الجواد.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها


10 رجب 195ﻫ، المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته


أُمّه السيّدة سُكينة المرسية، وقيل: الخَيزران، وهي جارية، وزوجته السيّدة سُمانة المغربية، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته


عمره 25 سنة، وإمامته 17 سنة.

حكّام عصره(عليه السلام)


المأمون، المعتصم.

استدعاؤه(عليه السلام) من قبل المعتصم العبّاسي


بُويع الخليفة العبّاسي المعتصم سنة 218ﻫ، وما أن استَتَبّ له أمر الملك وانقادت له البلاد شرقاً وغرباً، حتّى أخذ يتناهى إلى سمعه بروز نجم الإمام الجواد(عليه السلام)، واستقطابه لجماهير الأُمّة، وأخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً.
وتتسارع التقارير إلى الحاكم الجديد بتحرّك الإمام(عليه السلام) وسط الأُمّة الإسلامية.
وعلى أساس ذلك قَرّر المعتصم العبّاسي ـ وبمشورة مستشاريه ووزرائه ، ومنهم قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الأيادي الجهمي، المعروف ببغضه لأهل البيت(عليهم السلام) والذي كان يسيطر على المعتصم وقراراته وسياسته ـ أن يبعث بكتاب إلى واليه على المدينة المنوّرة، محمّد بن عبد الملك الزيّات في عام 219ﻫ بحمل الإمام الجواد(عليه السلام) وزوجته أُمّ الفضل بكلِّ إكرام وإجلال، وعلى أحسن مركب إلى بغداد.
فلم يكن بُدّ للإمام(عليه السلام) من الاستجابة لهذا الاستدعاء الذي يُشمّ منه الإجبار والإكراه، وقد أحسّ(عليه السلام) بأنّ رحلته هذه هي الأخيرة، ولا عودة بعدها.
لذلك فقد خلّف ابنه الإمام الهادي(عليه السلام) في المدينة، بعد أن اصطحبه معه إلى مكّة لأداء مراسم الحجّ.
وأوصى له بوصاياه، وسلّمه مواريث الإمامة، وأشهد أصحابه بأنّه(عليه السلام) إمامهم من بعده.
وتستمرّ الاستعدادات لترحيل الإمام(عليه السلام) إلى بغداد، ويستمهلهم الإمام(عليه السلام) لحين انتهاء الموسم .
وفعلاً، يؤدّي الإمام الجواد(عليه السلام) مراسم الحجّ، ويترك مكّة فور أداء المناسك معرجاً على مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ ليُخلِّف(عليه السلام) فيها ابنه الوصي الوريث.

خروجه(عليه السلام) إلى بغداد


يبدو أنّ الإمام الجواد(عليه السلام) خرج من المدينة مُتّجهاً إلى بغداد غير زائرٍ جدّه المصطفى(صلى الله عليه وآله)، وكأنّه(عليه السلام) أراد بهذه العملية التعبير عن احتجاجه على هذا الاستدعاء، وأنّ خروجه من مدينة جدِّه(صلى الله عليه وآله) إنّما هو مكره عليه.

وصوله(عليه السلام) إلى بغداد


وأخيراً ينتهي به(عليه السلام) المسير إلى بغداد ـ عاصمة الدولة العبّاسية ـ مقرُّه(عليه السلام) ومثواه الأخير الأبدي، ودخلها لليلتين بقيتا من المحرّم سنة 220ﻫ.
وما أن وصل(عليه السلام) إليها وحطّ فيها رحاله، حتّى أخذ المعتصم يدبِّر ويعمل الحيلة في قتله(عليه السلام) بشكلٍ سرِّي، ولذلك فقد شكّل مُثلّثاً لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء.

مُثلّث الاغتيال


على الرغم من تعدّد الروايات في كيفية شهادة الإمام الجواد(عليه السلام)، إلّا أنّ أغلبها تُجمع على أنّ الإمام(عليه السلام) اُغتيل مسموماً.
وأنّ مثلّث الاغتيال قد تمثّل في زوجته أُمّ الفضل وهي بنت المأمون، وهي المباشر الأوّل، قدّمت للإمام عنباً مسموماً، وتمثّل أيضاً في أخيها جعفر، والمدبّر والمساعد لهم على هذا الأمر هو المعتصم ابن هارون.
فقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرّخين، ومنهم المؤرّخ الشهير المسعودي حيث قال: «لمّا انصرف أبو جعفر(عليه السلام) إلى العراق، لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يُدبِّران ويعملان على قتله(عليه السلام).
فقال جعفر لأُخته أُمّ الفضل في ذلك؛ لأنّه وقف على انحرافها عنه وغِيرتها عليه؛ لتفضيله أُمّ أبي الحسن ابنه عليها، مع شدّة محبّتها له؛ ولأنّها لم تُرزق منه ولداً، فأجابت أخاها جعفراً، وجعلوا سمّاً في شيءٍ من عنب رازقيٍ... »(2).

تاريخ شهادته(عليه السلام) ومكانها


آخر ذي القعدة 220ﻫ، بغداد.

مكان دفنه(عليه السلام)


بغداد ـ الكاظمية ـ بجوار قبر جدّه الإمام موسى الكاظم(عليه السلام).

من وصاياه(عليه السلام)


1ـ قال(عليه السلام): «العَامِل بالظلمِ والمُعينُ عليهِ والراضِي به شُرَكَاءٌ».
2ـ قال(عليه السلام): «أربعُ خِصالٍ تُعيِّنِ المَرءَ على العمل: الصحّة، والغِنَى، والعِلم، والتوفِيق» .
3ـ قال(عليه السلام): «إنّ لله عباداً يخصّهم بالنعم ويقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم».
4ـ قال(عليه السلام): «من استغنى بالله افتقر الناس إليه، ومن اتّقى الله أحبّه الناس وأن كرهوا».
5ـ قال(عليه السلام): «لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتّى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتّى يؤثر شهوته على دينه».
6ـ قال(عليه السلام): «الفضائل أربعة أجناس: أحدها الحكمة، وقوامها في الفكرة، والثاني العفة، وقوامها في الشهوة، والثالث القوّة، وقوامها في الغضب، والرابع العدل، وقوامه في اعتدال قوى النفس»(3).
ــــــــــــــــــــــــ


2. المصدر السابق: 269.
3. جميع الوصايا في كشف الغمّة 3/138ـ140.

مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)

كلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نور لا يُملُّ، وحديثهم تستأنس به النفوس، وهو إلى القلب أسرع منه إلى السمع؛ وذلك لأنّ لسان حالهم أسبق من لسان مقالهم، وإنّ ما يخرج من القلب لا شكّ أنّه يدخل إلى القلب، ولا يبقى عالقاً في شفير المسامع.
ومن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام الجواد (عليه السلام) فله كلمات حكيمة، ومواعظ نورانية، وآداب إلهية، نذكر منها ما يلي:
1ـ قال(عليه السلام): (لا تُعادِ أحداً حتّى تعرف الذي بينه وبين الله تعالى، فإن كان محسناً فإنّه لا يسلمه إليك، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيكه، فلا تعاده).
2ـ قال(عليه السلام): (الثقة بالله تعالى ثمن لكلِّ غالٍ، وسُلّم إلى كلِّ عالٍ).
3ـ قال(عليه السلام): (مَن استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنّة).
4ـ قال(عليه السلام): (استصلاح الأخيار بإكرامهم، والأشرار بتأديبهم، والمودّة قرابة مستفادة).
5ـ قال(عليه السلام): (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال).
7ـ قال(عليه السلام): (مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله عزَّ وجلّ فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان).
8ـ قال(عليه السلام): (لو كانت السموات والأرض رتقاً على عبد ثمّ اتّقى الله تعالى لجعل منها مخرجاً).
9ـ قال(عليه السلام): (لا تكن ولياً لله في العلانية، وعدوّاً له في السرِّ).
10ـ قال(عليه السلام): (مَن استغنى بالله افتقر الناس إليه، ومَن اتّقى الله أحبّه الناس وإن كرهوا).
11ـ قال(عليه السلام): (لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتّى يُؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتّى يُؤثر هواه وشهوته على دينه).
12ـ قال(عليه السلام): (عزّ المؤمن غناه عن الناس).
13ـ قال(عليه السلام): (مَن أطاع هواه أعطى عدوّه مناه).
14ـ قال(عليه السلام): (مَن هجر المداراة قارنه المكروه، ومَن لم يعرف الموارد، أعيته المصادر).
15ـ قال(عليه السلام): (راكب الشهوات لا تُستقال له عثرة).
16ـ قال(عليه السلام): (ما عظمت نعمة الله على عبد إلاّ عظمت عليه مؤونة الناس، فمَن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرّض النعمة للزوال).
17ـ قال(عليه السلام): (مَن كثر همّه سقم جسده).
18ـ قال(عليه السلام): (مَن لم يرض من أخيه بحسن النية، لم يرض بالعطية).
19ـ قال(عليه السلام): (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه؛ لأنّ لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنّما يبدأ فيه بنفسه، فلا يطلبنّ شكر ما صنع إلى نفسه من غيره).
20ـ قال(عليه السلام): (مَن أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل).
21ـ قال(عليه السلام): (مَن استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه).
22ـ قال(عليه السلام): (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر).
23ـ قال(عليه السلام): (المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممّن ينصحه).
24ـ قال(عليه السلام): (التوبة على أربع دعائم: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم أن لا يعود).
25ـ قال(عليه السلام): (أربع مَن كنّ فيه استكمل الإيمان: مَن أعطى لله، ومنع في الله، وأحبّ لله، وأبغض فيه).
26ـ قال ( عليه السلام ): (الجمال في اللسان، والكمال في العقل).
27ـ قال(عليه السلام): (العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى، والصبر زينة البلاء، والتواضع زينة الحسب، والفصاحة زينة الكلام، والعدل زينة الإيمان، والسكينة زينة العبادة، والحفظ زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الآدب زينة العقل، وبسط الوجه زينة الحلم، والإيثار زينة الزهد، وبذل المجهود زينة النفس، وكثرة البكاء زينة الخوف، والتقلل زينة القناعة، وترك المنّ زينة المعروف، والخشوع زينة الصلاة، وترك ما لا يعني زينة الورع).
28ـ قال(عليه السلام): (يوم العدل على الظالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم).
29ـ قال(عليه السلام): (إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له).
30ـ قال(عليه السلام): (الحسد ماحق للحسنات، والزهو جالب للمقت، والعُجب صادن عن طلب العلم داعٍ إلى التخمّط في الجهل، والبخل أذم الأخلاق، والطمع سجية سيئة).
31ـ قال(عليه السلام): (إيّاك والحسد فإنّه يَبين فيك ولا يَبين في عدوّك).
32ـ قال(عليه السلام): (عليكم بطلب العلم، فإنّ طلبه فريضة، والبحث عنه نافلة، وهو صلة بين الإخوان، ودليل على المروءة، وتحفة في المجالس، وصاحب في السفر، وأُنس في الغربة).

ولادة الإمام محمد الجواد(عليه السلام)

ولادة الإمام محمد الجواد(عليه السلام)(1)

اسمه ونسبه(عليه السلام)

الإمام محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)


أبو جعفر، ويقال له(عليه السلام) أيضاً: أبو جعفر الثاني؛ تمييزاً له عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أبو علي.

ألقابه(عليه السلام)


الجواد، التقي، الزكي، القانع، المرتضى، المُنتَجَب... وأشهرها الجواد.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها


10 رجب 195ﻫ، المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته


أُمّه السيّدة سُكينة المرسية، وقيل: الخَيزران، وهي جارية، وزوجته السيّدة سُمانة المغربية، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته


عمره 25 سنة، وإمامته 17 سنة.

حُكّام عصره(عليه السلام)


المأمون، المعتصم.

البشارة بولادته(عليه السلام)


مرّ على عمر الإمام الرضا(عليه السلام) ـ أبو الإمام الجواد(عليه السلام) ـ أكثر من أربعين سنة ولم يُرزق بولد، فكان هذا الأمر مُدعاة لقلق الشيعة؛ لأنّها تعتقد بأنّ الإمام التاسع سيكون ابن الإمام الثامن.
ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يَمُنّ الله عزّ وجلّ على الإمام الرضا(عليه السلام) بولد، حتّى أنّهم في بعض الأحيان كانوا يذهبون إلى الإمام(عليه السلام) ويطلبون منه أن يدعو الله سبحانه بأن يرزقه ولداً، وهو(عليه السلام) يُسلِّيهم، ويقول لهم ما معناه: «إنّ اللهَ سوف يَرزُقني ولداً يكون الوارث والإمام من بعدي».

ما ورد في ولادته(عليه السلام)


تروي السيّدة حكيمة بنت الإمام الكاظم(عليه السلام) كيفية المولد العظيم، وما لازمته من الكرامات، فتقول: لمّا حضرت ولادة خيزران أُمّ أبي جعفر(عليه السلام)، دعاني الرضا(عليه السلام) فقال: «يا حكيمة، اِحضَري ولادتها».
وأدخلني(عليه السلام) وإيّاها والقابلة بيتاً، ووضع لنا مصباحاً، وأغلق الباب علينا.
فلمّا أخذها الطلق طَفئَ المصباحُ، وبين يديها طست فاغتممتُ بطفي المصباح، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر(عليه السلام) في الطست، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب، يسطع نوره حتّى أضاء البيت فأبصرناه.
فأخذتُه فوضعتُه في حِجري، ونزعتُ عنه ذلك الغشاء، فجاء الرضا(عليه السلام) ففتح الباب، وقد فرغنا من أمره، فأخذه(عليه السلام) ووضعه في المهد وقال لي: «يا حكيمة، الزمي مهده».
قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث رفع(عليه السلام) بصره إلى السماء، ثمّ نظر يمينه ويساره، ثمّ قال(عليه السلام): «أشهدُ أن لا إِلَه إلّا الله، وأشهدُ أنّ مُحمّداً رسولُ الله».
فقمتُ ذعرة فزِعةً، فأتيتُ أبا الحسن(عليه السلام) فقلت له: سمعتُ من هذا الصبي عجباً؟! فقال(عليه السلام): «وما ذاك»؟ فأخبرته الخبر، فقال(عليه السلام): «يا حكيمة، ما تَرَونَ مِنْ عجائبه أكثر»(2).

مكانته(عليه السلام) العلمية


لقد ساهم الإمام الجواد(عليه السلام) في إغناء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) واستمرارها، وحفظ تراثها، وكان ذلك واضحاً مدّة إمامته، وقد امتازت هذه المرحلة من الإمامة بالاعتماد على الرواية والنصّ عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكذلك الاستنباط والفهم من الكتاب والسنّة النبوية المباركة.
لقد قام الإمام الجواد(عليه السلام) بالتدريس وتعليم العلماء والتلامذة سبل استيعاب علوم الشريعة المحمّدية الغنية بالمعارف، وحثّهم على كتابة وتدوين وحفظ ما يلقيه عليهم، وما ألقاه آباؤه الطاهرون من قبل على تلامذتهم الروّاد.
كما أمرهم بالتأليف والتصنيف ونشر ما بحوزتهم وما حصلوا عليه، وبيان علوم الشريعة المقدّسة وتفقيه المسلمين، أو الردّ على الآراء المنحرفة والخرافات والتمحّلات الشيطانية التي وقع فيها الكثيرون.

من وصاياه(عليه السلام)


1ـ قال(عليه السلام): «العَامِل بالظلمِ، والمُعينُ عليهِ، والراضِي به شُرَكَاءٌ».
2ـ قال(عليه السلام): «أربعُ خِصالٍ تُعيِّنِ المَرءَ على العمل: الصحّة، والغِنَى، والعِلم، والتوفِيق» .
3ـ قال(عليه السلام): «إنّ لله عباداً يخصّهم بالنعم ويقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم».
4ـ قال(عليه السلام): «من استغنى بالله افتقر الناس إليه، ومن اتّقى الله أحبّه الناس وأن كرهوا».
5ـ قال(عليه السلام): «لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتّى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتّى يؤثر شهوته على دينه».
6ـ قال(عليه السلام): «الفضائل أربعة أجناس: أحدها الحكمة وقوامها في الفكرة، والثاني العفة، وقوامها في الشهوة، والثالث القوّة وقوامها في الغضب، والرابع العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس»(3).
ـــــــــــــــــــــــ
1ـ اُنظر: الأنوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية: 248.
2ـ مناقب آل أبي طالب 3/499.
3ـ جميع الوصايا في كشف الغمّة 3/138ـ140.

منزلة الإمام الجواد ( عليه السلام )

كان الإمام الرضا ( عليه السلام ) يشيد دوماً بولده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، ويدلِّلُ على فضله ومواهبه .
وقد بعث الفضل بن سهل إلى محمد بن أبي عباد كاتب الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا بولده الجواد ( عليهما السلام ) .
فأجابه : ما كان الرضا يذكر محمداً ( عليهما السلام ) إلا بكنيته ، فيقول : كتب لي أبو جعفر ، وكنتُ أكتب إلى أبي جعفر .
وكان آنذاك بالمدينة وهو صبي ، وكانت كتب الإمام الجواد ترد إلى أبيه ( عليهما السلام ) وهي في منتهى البلاغة والفصاحة .
وحدَّث الروَاة عن مدى تعظيم الإمام الرضا لولده الجواد ( عليهما السلام ) ، فقالوا : إنَّ عباد بن إسماعيل ، وابن أسباط ، كانا عند الإمام الرضا ( عليه السلام ) بمنى إذ جيء بأبي جعفر ( عليه السلام ) فقالا له : هذا المولود المبارك ؟!!
فاستبشر الإمام ( عليه السلام ) وقال : نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه .
وهناك طائفة كثيرة من الأخبار قد أثرت عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وهي تشيد بفضائل الإمام الجواد ( عليه السلام ) وتدلِّل على عظيم مواهبه وملكاته .

إكبار وتعظيم :

وأحيط الإمام الجواد ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره بهالة من التكريم والتعظيم من قبل الأخيار والمتحرِّجين في دينهم .
فقد اعتقدوا أنه من أوصياء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي فرض الله مودتهم على جميع المسلمين .
وقد ذكر الرواة أنَّ علي بن جعفر الفقيه الكبير ، وشقيق الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وأحد أعلام الأسرة العلوية في عصره ، كان ممن يقدس الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، ويعترف له بالفضل والإمامة .
فقد روى محمد بن الحسن بن عمارة قال : كنت عند علي بن جعفر جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه – يعني الإمام الكاظم ( عليه السلام ) – إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا ( عليه السلام ) مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء ، فقبّل يده وعظّمه ، والتفت إليه الإمام الجواد ( عليه السلام ) قائلاً : اجلس يا عَم ، رحمك الله .
وانحنى علي بن جعفر بكل خضوع قائلاً : يا سيدي ، كيف أجلس وأنت قائم ؟!
ولما انصرف الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، رجع علي بن جعفر إلى أصحابه فأقبلوا عليه يوبّخونه على تعظيمه للإمام ( عليه السلام ) مع حداثة سِنِّه قائلين له : أنتَ عَمُّ أبيه ، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟!!
فأجابهم علي بن جعفر جواب المؤمن بِرَبِّه ودينه ، والعارف بمنزلة الإمامة قائلاً : اسكتوا ، إذا كان الله – وقبض على لحيته – لم يؤهل هذه الشيبة – للإمامة – وأهَّل هذا الفتى ، ووضعه حيث وضعه ، نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا عبد له .
ودلَّل علي بن جعفر على أن الإمامة لا تخضع لمشيئة الإنسان وإرادته ، ولا تنالها يد الجعل الإنساني ، وإنما أمرها بيد الله تعالى ، فهو الذي يختار لها من يشاء من عباده ، من دون فرق بين أن يكون الإمام صغيراً أو كبيراً .

أقوال المؤرخين :

وقد مَلَكت مواهب الإمام الجواد ( عليه السلام ) عواطف العلماء ، فسجَّلُوا إعجابهم وإكبارهم له في مؤلَّفَاتهم ، وفيما يلي بعض ما قالوه :
الأول : قال الذهبي : كان محمد يُلقَّب بـ ( الجواد ) ، وبـ ( القانع ) ، و( المرتضى ) ، وكان من سروات آل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان أحد الموصوفين بالسخاء ، فلذلك لُقِّب بـ ( الجواد ) .
الثاني : قال السبط بن الجوزي : محمد الجواد كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود .
الثالث : قال الشيخ محمود بن وهيب : محمد الجواد هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً ، وأجلُّ أخوته قَدراً وكمالاً .
الرابع : قال خير الدين الزركلي : محمد بن الرضي بن موسى الكاظم ، الطالبي ، الهاشمي ، القرشي ، أبو جعفر ، المُلقَّب بـ ( الجواد ) ، تاسع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية ، كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكياً ، طليق اللسان ، قوي البديهة .
الخامس : قال الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة : أما مناقب أبي جعفر الجواد فما اتَّسَعت حلبات مجالها ، ولا امتدَّت أوقات آجالها ، بل قضت عليه الأقدار الإلهية بِقِلَّة بقائه في الدنيا بحكمها وأسجالها ، فَقَلَّ في الدنيا مقامه ، وعجَّل القدوم عليه كزيارة حمامه ، فلم تَطُل بها مدَّتُه ، ولا امتدَّت فيها أيامُه .
السادس : وأدلى علي بن عيسى الأربلي بكلمات أعرب فيها عن عميق إيمانه وولائه للإمام الجواد ( عليه السلام ) فقال : الجواد في كلِّ أحواله جواد ، وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة .
فاق الناس بطهارة العنصر ، وزكاء الميلاد ، وافترع قِلَّة العلاء ، فما قاربه أحد ، ولا كاد مجده ، عالي المراتب ، ومكانته الرفيعة تسمو على الكواكب ، ومنصبه يشرف على المناصب .
إذا أنس الوفد ناراً قالوا : ليتها ناره ، لا نار غالب ، لَهُ إلى المعالي سُموٌّ ، وإلى الشرف رَوَاح وَغُدُو ، وفي السيادة إِغراق وَعُلُو ، وعلى هَام السماك ارتفاع وعُلُو ، وعن كلِّ رذيلة بعد ، وإلى كلِّ فضيلة دُنُو .
تتأرج المكارم من أعطافه ، ويقطر المجد من أطرافه ، وترى أخبار السماح عنه وعن أبنائه وأسلافه ، فطوبى لمن سعى في ولائه ، والويل لمن رغب في خلافه .
هذه بعض الكلمات التي أدلى بها كبار المؤلِّفين ، وهي تمثِّل إعجابهم بمواهب الإمام وعبقرياته ، وما اتَّصف به من النزعات الشريفة التي تحكي صفات آبائه الذين رفعوا مشعل الهداية في الأرض .

مدرسة الإمام الجواد ( عليه السلام )

ساهَمَ الإمام الجواد ( عليه السلام ) مُدَّة إمامته التي دامت نحو سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) وحفظ تراثها .
والتي امتازت في تلك المرحلة بالاعتماد على النص والرواية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
وكذلك على الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة ، استنباطاً ملتزماً دقيقاً ، يكشف حقيقة المحتوى العلمي لهذين المصدرين .
بالإضافة إلى اهتمامها بالعلوم والمعارف العقليَّة التي ساهم الأئمة ( عليهم السلام ) وتلامذتهم في إنمائها وإغنائها ، حتى غدت حِصناً منيعاً للفكر الإسلامي .
وقد مارس الإمام الجواد ( عليه السلام ) نفس الدور الذي مارسه آباءه الكرام ( عليهم السلام ) .
حيث اعتمد ( عليه السلام ) على أسلوب التدريس وتعليم التلامذة والعلماء ، القادرين على استيعاب علوم الشريعة ومعارفها .
كما حَثَّهم ( عليه السلام ) على الكتابة ، والتدوين ، وحفظ ما يصدر عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أو أمْرِهم بالتأليف ، والتصنيف ، ونشر ما يحفظون ، لبيان علوم الشريعة ، وتعليم المسلمين وتفقيههم ، أو للرد على الأفكار المنحرفة ، والفهم الخاطىء ، الذي وقع فيه الكثيرون .
وهكذا صار حول الإمام الجواد ( عليه السلام ) تلامذة ورُواة ، ينقلون ويروُون ويكتبون .
وقد عَدَّ الشيخ الطوسي ( رضوان الله عليه ) نحو مِائة من الثقات ، ومنهم امرأتان ، كلّهم من تلامذة الإمام ( عليه السلام ) ورُوَاته ، والذين تتلمذوا على يديه المباركتين .
فصنَّفوا في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية ، وسنذكر - على سبيل المثال لا الحصر - بعضاً من أصحابه ( عليه السلام ) الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم :
1 - أحمد بن محمد بن خالد البرقي : صنّف كتباً كثيرة ، بَلَغت أكثر من تسعين كتاباً .
2 - علي بن مهزيار الأهوازي : له أكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً .
3 - صفوان بن يحيى : يقول الشيخ الطوسي : له كتب كثيرة ، وله مسائل عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
4 - أحمد بن محمد بن أبي نصر : كان عظيم المنزلة ، له كتاب ( الجامع ) ، وكتاب ( النوادر ) .

كلام الإمام الجواد ( عليه السلام ) في توحيد الله

أُثيرت في عصر الإمام الجواد ( عليه السلام ) كثير من الشكوك والأوهام حول قضايا التوحيد .
وأثَارها من لا حريجة له في الدين من الحاقدين على الإسلام ، لِزَعزَعَة العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين ، وتشكيكهم في مبادئ دينهم العظيم .
وقد أجاب الإمام الجواد ( عليه السلام ) عن كثير من تلك الشُبَه وفَنَّدها ، ومن بينها :

الشُبهة الأولى :

سأل محمد بن عيسى الإمام ( عليه السلام ) عن التوحيد قائلاً : إني أتوهم شيئاً .
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( نَعم ، غيرُ معقولٍ ، ولا محدودٍ ، فما وقع وَهمُك عليهِ من شيءٍ فهو خَلافُه ، لا يشبهُهُ شيء ، ولا تدركُهُ الأوهام ، وهو خلافُ ما يُتَصوَّر في الأوهام ، إنما يتصور شيء غير معقولٍ ولا محدود ) .
فإن وهم الإنسان إنما يتعلق بالأمور الخاضعة للوهم والتصور ، أما الأمور التي لا تخضع لذلك فإنه من المستحيل أن يتعلق بها الوهم والخيال حسب ما قُرر في علم الفلسفة .
فالله تعالى في ذاته وصفاته لا يصلُ لهُ الوهم ولا الخيال ، لأنهما إنما يدركان الأمور الممكنة دون واجب الوجود .

الشُبهة الثانية :

روى الحسين بن سعيد قال : سُئل الإمام الجواد ( عليه السلام ) : يجوز أن يقال لله إنه شيء ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( نَعم ، يُخرجُهُ مِن الحَدَّينِ : حَدُّ التعطيلِ ، وَحَدُّ التشبِيه ) .
فإن الشيئية التي تطلق على الممكنات لا تطلق عليه تعالى ، إلا بشرط تجريده مِن حَدِّ التعطيل وَحَدِّ التشبيه الذين هما من أبرز صفات الممكن .

الشُبهة الثالثة :

سأل أبو هاشم الجعفري عن قوله تعالى : ( لاَ تُدرِكُهُ الأبصَارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأَبصَارَ ) الأنعام : 103 .
فقال ( عليه السلام ) : ( يَا أبَا هاشم ، أوهامُ القلوبِ أَدَقُّ مِن أبصارِ العُيون ، أنتَ قد تُدرك بوهمِكَ السند والهِند ، والبُلدان التي لم تدخلها وَلم تُدرِكها بِبَصَرِكَ ، فأوهام القلوب لا تدركه ، فَكيف أبصَار العُيون ) .
فإن ذات الله تعالى لا تدركها أوهام القلوب ، على مَدَى ما تحمِلُه من سِعَة الخيال ، فضلاً عن إدراكها بِالعَينِ الباصرة ، فإن كُلاًّ منهما محدود بحسب الزمان والمكان ، وذات الله تعالى لا يجري عليها الزمان والمكان ، فإنه تعالى هو الذي خلقهما .

الشُبهة الرابعة :

سأل أبو هاشم الجعفري الإِمام الجواد ( عليه السلام ) قال : ما معنى الواحد ؟
فأجابه ( عليه السلام ) : ( الذي اجتَمَعَت الأَلْسُن عليه بالتوحيد ، كما قال الله عزَّ وجلَّ : ( ولَئِنِ سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيقُولُنَّ اللهُ ) لقمان : 25 .

كرامات الإمام الجواد ( عليه السلام )

يتميّز الأئمّة ( عليهم السلام ) بارتباطٍ خاصٍّ بالله تعالى وعالَم الغيب ، بسبَبِ مقامِ العصمة والإمامة ، ولَهُم - مثل الأنبياء - معاجزٌ وكرامَاتٌ تؤيِّد ارتباطهم بالله تعالى ، وكونَهم أئمّة ، وللإمام الجواد ( عليه السلام ) معاجزٌ وكراماتٌ كثيرةٌ ، سجَّلَتْها كتبُ التاريخ ، ونذكر هنا بعضاً منها :

الكرامة الأولى :

عن محمّد بن ميمون أنّه كان مع الإمام الرضا ( عليه السلام ) بمكّة قبل خروجه إلى خراسان ، قال : قلت له : إنّي أريد أن أتقدّم إلى المدينة فاكتب معي كتاباً إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) ، فتبسّم وكتب ، فصرت إلى المدينة ، وقد كان ذهب بصري ، فأخرج الخادم أبا جعفر ( عليه السلام ) إلينا يحمله من المهد ، فناولته الكتاب ، فقال لموفّق الخادم : ( فضّه وانشره ) ، ففضّه ونشره بين يديه ، فنظر فيه ثمّ قال لي : ( يا محمّد ما حال بصرك ) .
قلت : يا ابن رسول الله اعتلت عيناي فذهب بصري كما ترى ، فقال : ( أدن منّي ) ، فدنوت منه ، فمدّ يده فمسح بها على عيني ، فعاد إليّ بصري كأصح ما كان ، فقبّلت يده ورجله ، وانصرفت من عنده وأنا بصير .

الكرامة الثانية :

عن أبي بكر بن إسماعيل ، قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : إنّ لي جارية تشتكي من ريح بها ، فقال : ( ائتني بها ) ، فأتيت بها ، فقال لها : ( ما تشتكين يا جارية ) ، قالت : ريحاً في ركبتي ، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب ، فخرجت الجارية من عنده ، ولم تشتك وجعاً بعد ذلك .

الكرامة الثالثة :

عن علي بن جرير ، قال : كنت عند أبي جعفر ( عليه السلام ) جالساً ، وقد ذهبت شاة لمولاة له ، فأخذوا بعض الجيران يجرونهم إليه ، ويقولون : أنتم سرقتم الشاة ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ( ويلكم خلّوا عن جيراننا ، فلم يسرقوا شاتكم ، الشاة في دار فلان ، فاذهبوا فأخرجوها من داره ) ، فخرجوا فوجدوها في داره ، وأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه ، وهو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة ، إلى أن صاروا إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) ، فقال : ( ويحكم ظلمتم هذا الرجل ، فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها ) ، فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه .

الكرامة الرابعة :

عن القاسم بن المحسن ، قال : كنت فيما بين مكّة والمدينة ، فمر بي أعرابي ضعيف الحال ، فسألني شيئاً فرحمته ، فأخرجت له رغيفاً فناولته إياه ، فلمّا مضى عنّي هبت ريح زوبعة ، فذهبت بعمامتي من رأسي ، فلم أرها كيف ذهبت ، ولا أين مرّت ، فلمّا دخلت المدينة صرت إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) ، فقال لي : ( يا قاسم ذهبت عمامتك في الطريق ؟ ) .
قلت : نعم ، فقال : ( يا غلام أخرج إليه عمامته ) ، فأخرج إليّ عمامتي بعينها ، قلت : يا ابن رسول الله ، كيف صارت إليك ؟ قال : ( تصدّقت على الأعرابي فشكره الله لك ، وردّ إليك عمامتك ، وإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين ) .

الكرامة الخامسة :

عن المطرفي ، قال : إنّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) مضى ، ولي عليه أربعة آلاف درهم ، فقلت في نفسي : ذهبت ، فأرسل إليّ أبو جعفر ( عليه السلام ) : ( إذا كان غداً فأتني ، ومعك ميزان وأوزان ) ، فدخلت عليه ، فقال : ( أبو الحسن مضى ولك عليه أربعة آلاف درهم ) ، فرفع المصلّى الذي كان تحته ، فإذا دنانير تحته ، فدفعها إليّ وكانت بقيمتها .

الكرامة السادسة :

عن محمّد بن علي الهاشمي قال : دخلت على أبي جعفر صبيحة عرسه بأم الفضل بنت المأمون ، وكنت تناولت من الليل دواء فقعدت إليه ، فأصابني العطش ، فكرهت أن أدعو بالماء ، فنظر أبو جعفر في وجهي وقال : ( أراك عطشان ) ، قلت : أجل ، قال : ( يا غلام اسقنا ماء ) .
قلت في نفسي : الساعة يأتون بماء مسموم ، واغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء ، فتبسّم أبو جعفر في وجهي ، ثمّ قال للغلام : ( ناولني الماء ) ، فتناوله فشرب ظاهراً ، ثمّ ناولني فشربت وأطلت المقام والجلوس عنده ، فعطشت فدعا بالماء ، ففعل كما فعل في الأوّل ، فشرب ثمّ ناولني وتبسّم .
قال محمّد بن حمزة : قال لي محمّد بن علي الهاشمي : والله إنّي أظن أنّ أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة .

الكرامة السابعة :

عن علي بن خالد قال : كنت بالعسكر ، فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً أتي به من ناحية الشام ، مكبولاً بالحديد ، وقالوا : إنّه تنبأ ، فأتيت الباب وداريت البوّابين ، حتّى وصلت إليه ، فإذا رجل له فهم وعقل ، فقلت له : ما قصّتك ؟
قال : إنّي رجل كنت بالشام ، أعبد الله في الموضع الذي يقال إنّه نصب فيه رأس الحسين ( عليه السلام ) ، فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر الله ، إذ رأيت شخصاً بين يدي ، فنظرت إليه ، فقال لي : ( قم ) .
فقمت معه ، فمشى بي قليلاً ، فإذا أنا في مسجد الكوفة ، فقال لي : ( أتعرف هذا المسجد ؟ ) قلت : نعم ، هذا مسجد الكوفة ، فصلّى وصلّيت معه ، ثمّ انصرف وانصرفت معه ، فمشى بي قليلاً ، وإذا نحن بمسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فسلّم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسلّمت ، وصلّى وصلّيت معه ، ثمّ خرج وخرجت معه .
فمشى بي قليلاً ، فإذا نحن بمكّة ، فطاف بالبيت وطفت معه ، وخرج فخرجت معه ، فمشى بي قليلاً ، فإذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد الله فيه بالشام ، وغاب الشخص عن عيني ، فتعجّبت ممّا رأيت .
فلمّا كان في العام المقبل ، رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به ، ودعاني فأجبته ، ففعل كما فعل في العام الأوّل ، فلمّا أراد مفارقتي بالشام ، قلت : سألتك بحق الذي أقدرك على ما رأيت من أنت ؟
قال : ( أنا محمّد بن علي بن موسى بن جعفر ) ، فحدّثت من كان يصير إليّ بخبره ، فرقي ذلك إلى محمّد بن عبد الملك الزيات ، فبعث إليّ فأخذني ، وكبّلني في الحديد ، وحملني إلى العراق ، وحبست كما ترى ، وادّعى عليّ المحال .
فقلت له : أرفع عنك قصّة إلى محمّد بن عبد الملك الزيات ، قال : افعل .
فكتبت عنه قصّة شرحت أمره فيها ، ورفعتها إلى الزيات ، فوقّع في ظهرها ، قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ، وإلى المدينة وإلى مكّة أن يخرجك من حبسي هذا .
قال علي بن خالد : فغمّني ذلك من أمره ، ورققت له وانصرفت محزوناً ، فلمّا كان من الغد باكرت الحبس لأعلمه بالحال ، وآمره بالصبر والعزاء .
فوجدت الجند وأصحاب الحرس ، وصاحب السجن وخلقاً عظيماً من الناس يهرعون ، فسألت عنهم وعن حالهم ، فقيل : المحمول من الشام المتنبئ افتقد البارحة من الحبس ، فلا يدرى خسفت الأرض به ، أو اختطفته الطير .
وكان هذا الرجل أعنّي علي بن خالد زيدياً ، فقال بالإمامة لمّا رأى ذلك ، وحسن اعتقاده .

الكرامة الثامنة :

عن الحسن بن علي الوشّاء ، قال : كنت بالمدينة بصرياً في المشربة ، مع أبي جعفر ( عليه السلام ) ، فقام وقال : ( لا تبرح ) .
فقلت في نفسي : كنت أردت أن أسأل أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) قميصاً من ثيابه فلم أفعل ، فإذا عاد إليّ أبو جعفر ( عليه السلام ) أسأله .
فأرسل إليّ من قبل أن أسأله ، ومن قبل أن يعود إليّ ، وأنا في المشربة بقميص ، وقال الرسول : يقول لك : ( هذا من ثياب أبي الحسن التي كان يصلّي فيها ) .

الكرامة التاسعة :

عن محمّد بن فضيل الصيرفي ، قال : كتبت إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) كتاباً ، وفي آخره هل عندك سلاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ونسيت أن أبعث بالكتاب ، فكتب إليّ بحوائج له ، وفي آخر كتابه : ( عندي سلاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل ، يدور معنا حيث درنا ، وهو مع كل إمام ) .

الكرامة العاشرة :

عن محمّد بن الوليد الكرماني ، قال : أتيت أبا جعفر ( عليه السلام ) ، فوجدت بالباب الذي في الفناء قوماً كثيراً ، فعدلت إلى مسافر فجلست إليه حتّى زالت الشمس ، فقمنا للصلاة ، فلمّا صلّينا الظهر ، وجدت حسّاً من ورائي ، فالتفت فإذا أبو جعفر ( عليه السلام ) فسرت إليه حتّى قبّلت يده ، ثمّ جلس وسأل عن مقدمي .
ثمّ قال : ( سلّم ) ، فقلت : جعلت فداك قد سلّمت ، فأعاد القول ثلاث مرّات : ( سلّم ) ، وقلت ذاك ما قد كان في قلبي منه شيء ، فتبسّم وقال : ( سلّم ) ، فتداركتها وقلت : سلّمت ورضيت يا ابن رسول الله ، فأجلى الله ما كان في قلبي ، حتّى لو جهدت ورمت لنفسي أن أعود إلى الشك ما وصلت إليه .
فعدت من الغد باكراً ، فارتفعت عن الباب الأوّل ، وصرت قبل الخيل ، وما ورائي أحد أعلمه ، وأنا أتوقّع أن أجد السبيل إلى الإرشاد إليه ، فلم أجد أحداً حتّى اشتد الحر والجوع جدّاً ، حتّى جعلت أشرب الماء أطفئ به حر ما أجد من الجوع والخواء ، فبينا أنا كذلك إذ أقبل نحوي غلام قد حمل خواناً عليه طعام وألوان ، وغلام آخر معه طشت وإبريق حتّى وضع بين يدي ، وقالا : أمرك أن تأكل ، فأكلت فما فرغت حتّى أقبل ، فقمت إليه فأمرني بالجلوس وبالأكل فأكلت ، فنظر إلى الغلام ، فقال : ( كل معه ) ، ينشط حتّى إذا فرغت ورفع الخوان ، ذهب الغلام ليرفع ما وقع من الخوان من فتات الطعام ، فقال : ( مه مه ما كان في الصحراء فدعه ، ولو فخذ شاة ، وما كان في البيت فالقطه ) .
ثمّ قال : ( سل ) ، قلت : جعلني الله فداك ، ما تقول في المسك ؟ فقال : ( إنّ أبي أمر أن يعمل له مسك في بان ، فكتب إليه الفضل يخبره أنّ الناس يعيبون ذلك عليه ، فكتب : يا فضل أما علمت أنّ يوسف كان يلبس ديباجاً مزروراً بالذهب ، ويجلس على كراسي الذهب ، فلم ينقص من حكمته شيئاً ، وكذلك سليمان ، ثمّ أمر أن يعمل له غالية بأربعة آلاف درهم ) ، ثمّ قلت : ما لمواليك في موالاتكم ؟
فقال : ( إن أبا عبد الله ( عليه السلام ) كان عنده غلام يمسك بغلته ، إذا هو دخل المسجد ، فبينا هو جالس ومعه بغلة ، إذ أقبلت رفقة من خراسان ، فقال له رجل من الرفقة : هل لك يا غلام أن تسأله أن يجعلني مكانك ، وأكون له مملوكاً ، وأجعل لك مالي كلّه ، فإنّي كثير المال من جميع الصنوف ، اذهب فاقبضه وأنا أقيم معه مكانك ، فقال : أسأله ذلك ، فدخل على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فقال : جعلت فداك تعرف خدمتي وطول صحبتي ، فإن ساق الله إليّ خيراً تمنعنيه ؟
قال : أعطيك من عندي وأمنعك من غيري ، فحكى له قول الرجل ، فقال : إن زهدت في خدمتنا ورغب الرجل فينا قبلناه وأرسلناك ، فلمّا ولى عنه دعاه ، فقال له : أنصحك لطول الصحبة ولك الخيار ، إذا كان يوم القيامة كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعلّقاً بنور الله ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) متعلّقاً بنور رسول الله ، وكان الأئمّة متعلّقين بأمير المؤمنين ، وكان شيعتنا متعلّقين بنا ، يدخلون مدخلنا ويردّون موردنا .
فقال له الغلام : بل أقيم في خدمتك ، وأؤثر الآخرة على الدنيا ، فخرج الغلام إلى الرجل ، فقال له الرجل : خرجت إليّ بغير الوجه الذي دخلت به ، فحكى له قوله وأدخله على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقبل ولاءه ، وأمر للغلام بألف دينار ، ثمّ قام إليه فودّعه ، وسأله أن يدعو له ففعل ) .

علم الإمام الجواد ( عليه السلام )

لا فضيلة كالعلم ، فإنّ به حياة الأمم وسعادتها ، ورقيّها وخلودها ، وبه نباهة المرء وعلو مقامه وشرف نفسه .
ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفه ، لأنّ العابد صالح على طريق نجاة ، قد استخلص نفسه فحسب ، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال ، وصالح في نفسه أيضاً ، وقد فتح عينيه في طريقه ، ومن فتح عينه أبصر الطريق .
وقد جاء في السنّة الثناء العاطر على العلم ـ القدر المتيقّن منه علم الدين ـ وأهله ، كما جاء في الكتاب آيات جمّة في مدحه ومدح ذويه ، وهذا أمر مفروغ عنه ، لا يحتاج إلى استشهاد واستدلال .

علم الأنبياء والأوصياء إلهامي :

إنّ علم الدين إِلهامي وكسبي ، والكسبي يقع فيه الخطأ والصواب ، والصحّة والغلط ، وغلط العالم وخطأه يعود على العالم كلّه بالخطأ والغلط ، لأنّ الناس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام ، والله جلّ شأنه لا يريد للناس إِلاّ العمل بالشريعة التي أنزلها ، والأحكام التي شرّعها ، فلابد إِذن من أن يكون في الناس عالم لا يخطأ ولا يغلط ، ولا يسهو ولا ينسى ، ليرشد الناس إلى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه ، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه ، فلا تقع الأُمّة في إشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط ، ولا يكون ذلك إِلاّ إذا كان علم العالم وحياً أو إِلهاماً .
فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء وأوصيائهم من العلم الإِيحائي أو الإِلهامي صوناً لهم وللأُمم من الوقوع في المخالفة خطأً .

علم الإمام الجواد :

إنّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) انتهت إليه الإمامة وهو ابن سبع ، ونهض بأعبائها ، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد ، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين ، وما وجدت فيه نقصاً عن علوم آياته ، وهذا علي بن جعفر ـ شيخ العلويين في عهده سنّاً وفضلاً ـ إذا أقبل الجواد ( عليه السلام ) يقوم فيقبّل يده ، وإِذا خرج يسوّي له نعله .
وسئل عن الناطق بعد الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقال : أبو جعفر ابنه ، فقيل له : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد تقول هذا القول في هذا الغلام ، فقال : ما أراك إِلاّ شيطاناً ، ثمّ أخذ بلحيته ، وقال : فما حيلتي إِن كان الله رآه أهلاً لهذا ، ولم ير هذه الشيبة لها أهلاً .
هذا ، وعلي بن جعفر أخ الكاظم ( عليه السلام ) ، والكاظم جدّ الجواد ، فماذا ترى بينهما من السن ، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق وأخيه الكاظم وابن أخيه الرضا ( عليهم السلام ) ، فلو كان علمهم بالتحصيل لكان علي أكثر تحصيلاً ، أو الإمامة بالسنّ ، لكان علي أكبر العلويين سنّاً .
على أنّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان وهو ابن خمس ، فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتّى جعله بتلك المنزلة العالية لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب ؟ ولم لا يكون المعلّم والمثقف هو صاحب المنزلة دونه .
واستشهد الإمام الجواد ( عليه السلام ) وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وأنت تعلم أن ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في الطلب ، فكيف يكون عالم الأُمّة ومرشدها ، ومعلّم العلماء ومثقّفهم ، وقد رجعت إِليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
فالجواد ( عليه السلام ) كسائر الأئمّة ( عليهم السلام ) ، لم يكن علمه كسبياً وأخذاً من أفواه الرجال ومدارستهم ، ولو كان فممّن أخذ وعلى مَن تخرّج ؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمّة ( عليهم السلام ) أنّه تتلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتّى في سنّ الطفولة ، فلم يذكر في تأريخ طفولتهم أنّه دخلوا الكتاتيب ، أو تعلّموا القرآن على المقرئين ، كسائر الأطفال من الناس ، فما عِلمُ الإمام إِلاّ وراثة عن أبيه عن جدّه عن الرسول عن جبرائيل عن الجليل تعالى .

عبادة الإمام الجواد ( عليه السلام )

ن الإمام الجواد ( عليه السلام ) أعبد أهل زمانه ، وأشدّهم خوفاً من الله تعالى ، وأخلصهم في طاعته وعبادته ، شأنه شأن الأئمّة الطاهرين من آبائه ، الذين وهبوا أرواحهم لله ، وعملوا كلّ ما يقرّبهم إلى الله زلفى .
أمّا مظاهر عبادة الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، فهي :

نوافله :

كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) كثير النوافل ، ويقول الرواة : كان يصلّي ركعتين يقرأ في كلّ ركعة سورة الفاتحة ، وسورة الإخلاص سبعين مرّة .
وكان كثير العبادة في شهر رجب ، وقد روى الريّان بن الصلت ، قال : صام أبو جعفر الثاني ( عليه السلام ) لمّا كان ببغداد يوم النصف من رجب ، ويوم سبع وعشرين منه ، وصام معه جميع حشمه ، وأمرنا أن نصلّي بالصلاة التي هي اثنتا عشرة ركعة ، تقرأ في كلّ ركعة الحمد وسورة ، فإذا فرغت قرأت الحمد أربعاً ، وقل هو الله أحد أربعاً ، والمعوّذتين أربعاً ، وقلت : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، وسبحان الله والحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم أربعاً ، الله الله ربّي ، ولا أشرك به شيئاً أربعاً ، لا أشرك بربّي أحداً أربعاً .
وكان يقول ( عليه السلام ) : ( إنّ في رجب لليلة خير ممّا طلعت عليه الشمس ، وهي ليلة سبع وعشرين من رجب ) .

حجّه :

وكان الإمام الجواد ( عليه السلام ) كثير الحجّ ، وقد روى الحسن بن علي الكوفي بعض أعمال حجّه ، قال : رأيت أبا جعفر الثاني ( عليه السلام ) ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس ، وطاف بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط ، فلمّا كان الشوط السابع استلمه واستلم الحجر ومسحه بيده ثمّ مسح وجهه بيده ، ثمّ أتى المقام ، فصلّى خلفه ركعتين ، ثمّ خرج إلى دبر الكعبة إلى الملتزم ، فالتزم البيت ، وكشف الثوب عن بطنه ، ثمّ وقف عليه طويلاً يدعو ، ثمّ خرج من باب الحنّاطين وتوجّه .
وقال : فرأيته في سنة ( 219 هـ ) ودّع البيت ليلاً ، يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كلّ شوط ، فلمّا كان في الشوط السابع التزم البيت في دبر الكعبة قريباً من الركن اليماني ، وقوف الحجر المستطيل ، وكشف الثوب عن بطنه ، ثمّ أتى الحجر فقبّله ومسحه ، وخرج إلى المقام فصلّى خلفه ، ثمّ مضى ولم يعد إلى البيت ، وكان وقوفه على الملتزم بقدر ما طاف بعض أصحابنا سبعة أشواط وبعضهم ثمانية .
وروى علي بن مهزيار بعض الخصوصيات في حجّ الإمام ( عليه السلام ) ، قال : رأيت أبا جعفر الثاني ( عليه السلام ) ليلة الزيارة طاف طواف النساء ، وصلّى خلف المقام ، ثمّ دخل زمزم فاستقى منها بيده بالدلو الذي يلي الحجر ، وشرب منه وصبّ على بعض جسده ، ثمّ اطلع في زمزم مرّتين ، وأخبرني بعض أصحابنا أنّه رآه بعد ذلك في سنة فعل مثل ذلك .
وكان هذا التدقيق من الرواة في نقل هذه الخصوصيّات ، باعتبار أنّ فعل الإمام ( عليه السلام ) من السنّة التي يتعبّد بها عند الشيعة .

أدعيته :

للإمام الجواد ( عليه السلام ) أدعية كثيرة ، تمثّل مدى انقطاعه إلى الله تعالى ، فمن أدعيته هذا الدعاء : ( يا من لا شبيه له ، ولا مثال ، أنت الله لا إله إلاّ أنت ، ولا خالق إلاّ أنت ، تفني المخلوقين ، وتبقى أنت ، حلمت عمّن عصاك ، وفي المغفرة رضاك ... ) .
وكتب إليه محمّد بن الفضيل يسأله أن يعلّمه دعاءً ، فكتب إليه هذا الدعاء الشريف ، تقول إذا أصبحت وأمسيت : ( الله الله ربّي ، الرحمن الرحيم ، لا أشرك به شيئاً ) ، وإن زدت على ذلك فهو خير ، ثمّ تدعو بذلك في حاجتك ، فهو لكلّ شيء بإذن الله تعالى يفعل الله ما يشاء .
وتمثّل أدعية الأئمّة الطاهرين جوهر الإخلاص والطاعة لله ، فقد اتّصلوا بالله تعالى ، وانطبع حبّه في مشاعرهم وعواطفهم ، فهاموا بمناجاته والدعاء له .

سخاء وكرم الإمام الجواد ( عليه السلام )

كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) من أندى الناس كفّاً ، وأكثرهم سخاءً ، وقد لُقِّب بـ ( الجواد ) لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى الناس .
وقد ذكر المُؤَرِّخون بوادر كثيرة من كرمه ( عليه السلام ) ، وكان منها ما يلي :

الأولى :

روى المؤرخون أن أحمد بن حديد قد خرج مع جماعة من أصحابه إلى الحج ، فهجم عليهم جماعة من السُرَّاق ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع .
ولما انتهوا إلى يثرب انطلق أحمد إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) وأخبره بما جرى عليهم ، فأمر الإمام ( عليه السلام ) له بكسوة ، وأعطاه دنانير ليفرقها على جماعته ، وكانت بقدر ما نهب منهم .

الثانية :

روى العتبي عن بعض العلويين إنه كان يهوى جارية في يثرب ، وكانت يده قاصرة عن ثمنها ، فشكا ذلك إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) فسأله عن صاحبها فأخبره عنه .
ولما كان بعد أيام سأل العلوي عن الجارية فقيل له : قد بيعت وسأل عن المشتري لها ، فقالوا له : لا ندري ، وكان الإمام قد اشتراها سِراً .
ففزع العلوي نحو الإمام ( عليه السلام ) وقد رفع صوته : بِيعَت !! ، بِيعَت ‍‍‍‌!! .
فقابله الإمام ( عليه السلام ) ببسمات فَيَّاضة بالبِشرِ قائلاً : ( هل تدري من اشتراها ) ؟ .
فقال العلوي : لا .
وانطق معه الإمام إلى الضيعة التي فيها الجارية ، فانتهى إلى البيت الذي فيه الجارية ، فأمره ( عليه السلام ) بالدخول إلى الدار ، فأبى العلوي لأنها دار الغير ، ولم يعلم أن الإمام ( عليه السلام ) قد اشتراها .
ثم إنه دخل الدار مع الإمام ( عليه السلام ) فلما رأى الجارية التي يهواها قال ( عليه السلام ) له : ( أتعرفها ) ؟
فقال العلوي : نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( هي لك ، والقصر والضيعة ، والغلة وجميع ما في القصر ، فَأَقِمْ مع الجارية ) .
فَمَلأَ الفرحُ قلب العلوي وحار في شكر الإمام ( عليه السلام ) .

زهد الإمام الجواد ( عليه السلام )

الزهد في الدنيا من أبرز الذاتيات في خُلق أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد أعرضوا عن زهرة هذه الدنيا ، وفعلوا كل ما يقربهم إلى الله زُلفى .
فقد كان الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رائد العدالة الكبرى في الأرض في أيام خلافته ، فكان ( عليه السلام ) يلبس أخشن الثياب ، ويأكل أجشب العيش ، ولم يتَّخذ من غنائمها وفراً ، ولم يضع لبنة على لبنة .
وعلى ضوء هذه السيرة المشرقة الواضحة سار الأئمة الطاهرون ( عليهم السلام ) ، فقد زهدوا جميعاً في الدنيا وأعرضوا عن رغائبها .
لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام ) شاباً في مقتبل العمر ، وكان المأمون يغدق عليه الأموال الوافرة البالغة مليون درهم .
وكانت الحقوق الشرعية ترد إليه ( عليه السلام ) من الطائفة الشيعية التي تذهب إلى إمامته ، بالإضافة إلى الأوقاف التي في مدينة قُم المقدسة وغيرها .
إلا أنه ( عليه السلام ) لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصة ، وإنما كان ينفقها على الفقراء والمعوزين والمحرومين .
وقد رآه الحسين المكاري في بغداد ، وكان محاطاً بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسمية والشعبية ، فحدثَتْه نفسُه أنه لا يرجع إلى وطنه يثرب ، وسوف يقيم في بغداد راتعاً في النعم والترف .
فعرف الإمام ( عليه السلام ) قصده وانعطف عليه وقال له : ( يا حسين ، خبز الشعير ، وملح الجريش ، في حرم جَدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحب إليَّ مما تراني فيه ) .
فإنه ( عليه السلام ) لم يكن من عشاق تلك المظاهر التي كانت تضفيها عليه الدولة ، وإنما كان كآبائه ( عليهم السلام ) حيث طلَّقوا الدنيا ، واتجهوا لله تعالى لا يبغون عنه بديلاً .

دور الإمام الجواد ( عليه السلام ) في تفسير القرآن

إنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) هم الراسخون في العلم ، المفسّرون للقرآن الكريم كما أنزله الله وأراده حقيقة ، وهم وحدهم العالمون بتأويله ، والدليل على ظاهره وباطنه .
وليس بدعاً من القول إذا سلّمنا بأنّهم عدل القرآن للنبوي الصحيح المروي في المدوّنات الحديثية لدى الفريقين ، ذلك هو حديث : ( إنّي تارِكُ فِيكُمُ الثَقَلَين كِتاب الله وعِترَتِي أهل بِيتِي ما إن تَمَسَكتُم بِهُما لَن تضلوا بَعدي أبداً ) .
إذا علمت هذا ، فينبغي بمن هو عدل الكتاب وقرينه أن يكون عالماً بكلّ آياته ، ومحيطاً بجميع أسراره ومحكمه ومتشابهه ، ناسخه ومنسوخه ، وهكذا كان أهل البيت ( عليهم السلام ) قرآناً ناطقاً يهدي للتي هي أقوم ، ويبشّر المؤمنين بخط ولايتهم بأن لهم قدم صدق عند مليك مقتدر .
وعلى الرغم من أن ما وصل إلينا عن الأئمّة الميامين ( عليهم السلام ) بشأن القرآن الكريم وتفسيره لا يشكّل إلاّ نزراً يسيراً لما يمتلكون من حصيلة علمية ، وثراء فكري ليس لهما حدود ، إلاّ أنّ المتصدّي لتفسير القرآن الكريم لا يمكنه الاستغناء عن تفسيرهم ( عليهم السلام ) لما فيه من سمات أصيلة لفهم كتاب الله ، أبرزها تفسير القرآن بالقرآن ، والقول بسلامة القرآن من التحريف ، وغيرها من المبادئ الأساسية لإدراك معاني الكتاب الكريم .
وإمامنا الجواد ( عليه السلام ) هو واحد من تلك الكوكبة ، ومن أمثلة تفسيره ( عليه السلام ) ما نقله الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري الذي قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) سائلاً عن معنى : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) الأنعام : 103 .
فقال ( عليه السلام ) : ( يا أبا هاشم ، أوهام القلوب أدَقُ مِنْ أبْصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند ، والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف أبصار العيون ) ؟
ونقل الشيخ الطوسي في تهذيبه ، بسنده عن السيّد عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن أبي جعفر محمّد بن علي الرضا ( عليه السلام ) أنّه قال : سألته عمّا أُهلّ لغير الله .
قال ( عليه السلام ) : ( ما ذُبح لصنم أو وثن أو شجر ، حرّم الله ذلك كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أن يأكل الميتة ) .
قال : فقلت له : يا بن رسول الله ، متى تحلّ للمضطر الميتة ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( حدّثني أبي عن أبيه ، عن آبائه ( عليهم السلام ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سُئل فقيل له : يا رسول الله إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة ، فمتى تحلُّ لنا الميتة ؟ قال : ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا ، أو تحتفوا بقلاً ، فشأنكم بهذا ) .
قال عبد العظيم : فقلت له : يا بن رسول الله فما معنى قوله عزَّ وجلَّ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ) ؟
قال ( عليه السلام ) : ( العادي : السارق ، والباغي : الذي يبغي الصيد بطراً ولهواً ؛ ليعود به على عياله ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا ، هي حرام عليهما في حال الاضطرار ، كما هي حرام عليهما في حال الاختيار ، وليس لهما أن يقصّرا في صوم ولا صلاة في سفر ) .
قال : قلت له : فقول الله تعالى : ( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ) المائدة : 3 .
قال ( عليه السلام ) : ( المنخنقة : التي انخنقت بأخناقها حتّى تموت ، والموقوذة : التي مرضت ووقذها المرض حتّى لم تكن بها حركة ، والمتردّية : التي تتردّى من مكان مرتفع إلى أسفل ، أو تتردّى من جبل ، أو في بئر فتموت ، والنطيحة : التي تنطحها بهيمة أُخرى فتموت ، وما أكل السبع منه فمات ، وما ذُبح على حجر أو على صنم ، إلاّ أُدركت ذكاته فذُكيّ ) .
قلت : ( وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ) ؟
قال ( عليه السلام ) : ( كانوا في الجاهلية يشترون بعيراً فيما بين عشرة أنفس ، ويستقسمون عليه بالقداح ، وكانت عشرة ، سبعة لهم أنصباء ، وثلاثة لا أنصباء لها ، أمّا التي لها أنصباء : فالفذّ ، والتوأم ، والنافس ، والحِلس ، والمسبل ، والمعلّى ، والرقيب .
وأمّا التي لا أنصباء لها : فالسفح ، والمنيح ، والوغد ، وكانوا يجيلون السهام بين عشرة ، فمن خرج باسمه سهم من التي لا أنصباء لها أُلزم ثلث ثمن البعير ، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السهام التي لا أنصباء لها إلى ثلاثة ، فيُلزم ثمن البعير ، ثمّ ينحرونه ويأكل السبعة الذين لم ينقدوا في ثمنه شيئاً ، ولم يطعموا منه الثلاثة شيئاً ، فلمّا جاء الإِسلام حرّم الله تعالى ذكره ذلك فيما حرّم ، وقال : ( وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) يعني حراماً ) .

إمامة الإمام الجواد ( عليه السلام )

إنَّ الإمامة كالنبوة ، موهِبَة إلهيَّة يَمنحُها الله سبحانه لِمَنْ هو أهلٌ لها من عِبَاده المُصْطَفين ، ولا دَخلَ للعُمْر في ذلك .
ولعلَّ من يستبعد نبوَّة وإمامة الطفل الصغير ، أو يتصوَّرها غير ممكنة ، فإنه قد خلط بين الأمور الإلهيَّة والشؤون العاديَّة ، وتصوَّرَها بشكل واحد .
بينما الواقع ليس كذلك ، فالإمامة والنبوَّة مرتبطة كل منهما بإرادة الله عزَّ وجلَّ ، وهو يمنحها للعباد الذين يعلم - بعلمِهِ اللاَّمحدود - أهليَّتهم لِهَذَا المَقَام الرفيع .
فقال الله تعالى : ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) مريم : 11 .
وقال تعالى : ( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم : 29 - 30 .
وبناءً على ذلك لا مانِعَ من أن يعطي الله سبحانه جَميعَ العلوم لطفلٍ صغير ، مثل النبي يَحيَى أو النبي عيسى ( عليهما السلام ) كما في النبوَّة .
أو لصبيٍّ في الثامنة أو التاسعة من عمره ، كما في إمامة الإمام الجواد ( عليه السلام ) .
فتولَّى الإمام الجواد ( عليه السلام ) الإمامة ، بعد استشهاد أبيه الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وبالطبع كان استلامه للإمامة بِتَصريح ونص الأئمة السابقين من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وبتعيين مُسبَقٍ من قِبَل أبيه ( عليه السلام ) .
وبسبب صِغَر سِنِّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) تعرَّض للاختبار والامتحان من قبل الأعداء والجُهَّال ، إلاَّ أنَّ تجلِّي العلوم الإلهية على يده ( عليه السلام ) كان باهراً ورائعاً ، مِمَّا جعل أعداؤه يُذعِنون ويقرُّون له بالعلم .
ومن القصص التي تروى في هذا المجال هي ما عن يحيى بن أكثم ، قاضي سامراء ، قال : بَيْنَا أنا ذات يوم دخلت أطوفُ بقبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرأيت محمد الجواد ( عليه السلام ) يطوف به ، فناظرته في مسائل عندي ، فأخرجها إلي ، فقلت له : والله إني أريد أن أسألك مسألة وإني لأستحي من ذلك .
فقال ( عليه السلام ) لي : ( أنَا أُخْبِرُكَ قَبلَ أنْ تَسْألَني ، تَسْألُني عَنِ الإمَامِ ؟ ) .
فقلت : هو والله هذا .
فقال ( عليه السلام ) : ( أنَا هُوَ ) .
فقلتُ : ما هي العَلامة ؟
فكان في يده ( عليه السلام ) عَصَا ، فنطَقَتْ وقالَتْ : إنَّ مولاي إمَامُ هَذَا الزَّمَان ، وهو الحُجَّة .
ومن القصص التي تروى في هذا المجال أيضاً هي ما قال القاسم بن عبد الرحمن – وكان زيديّاً – : خرجتُ إلى بغداد ، فَبَيْنَا أنا بها إذ رأيت الناس يُسرِعون في المشي ، ويتطلَّعون إلى رجل ويقفون .
فقلت من هذا ؟
فقالوا : الإمام الجواد ( عليه السلام ) .
فقلت : والله لأنظرنَّ إليه ، فطلع على بغلة ، فقلت : لعن الله أصحاب الإمامة حيث يقولون : إنَّ الله افترض طاعة هذا .
فَعَدِلَ الإمامُ ( عليه السلام ) إليَّ فقال : يا قاسم : ( أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ) القمر : 24 .
فقلت في نفسي : سَاحِرٌ والله !! .
فقال ( عليه السلام ) : ( أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) القمر : 25 .
فانْصرَفْتُ وقلتُ بالإمامة ، وشَهدتُ أنَّه حُجَّة الله على خلقه ، واعتقدتُ .

شهادة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)

اسمه ونسبه(عليه السلام)

الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)


أبو الحسن، أبو إبراهيم، أبو علي، أبو إسماعيل... والأُولى أشهرها.

ألقابه(عليه السلام)


الكاظم، العبد الصالح، الصابر، الأمين... وأشهرها الكاظم.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها


7 صفر 128ﻫ، المدينة المنوّرة ـ الأبواء.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته


أُمّه السيّدة حَميدة البربرية وهي جارية، وزوجته السيّدة تكتم أُمّ الإمام الرضا(عليه السلام) وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته


عمره 55 سنة، وإمامته 35 سنة.

حكّام عصره(عليه السلام)


أبو جعفر المنصور المعروف بالدوانِيقي، لأنّه كان ولفرط شحه وبخله وحبّه للمال يحاسب حتّى على الدوانيق، والدوانيق جمع دانق، وهو أصغر جزء من النقود في عهده، محمّد المهدي، موسى الهادي، هارون الرشيد.

سجنه(عليه السلام)


أمر هارون الرشيد بسجن الإمام الكاظم(عليه السلام)، ثمّ أخذ ينقله من سجنٍ إلى سجن، حتّى أدخله سجن السندي بن شاهك الذي لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، فكان لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام(عليه السلام) بكلّ قسوة وجفاء، فضيّق عليه في مأكله ومشربه، وكَبّله بالقيود، ويقول الرواة: إنّه قيّده(عليه السلام) بثلاثين رطلاً من الحديد.
وأقبل الإمام(عليه السلام) على عادته على العبادة، فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويُمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

رسالته(عليه السلام) إلى هارون


أرسل الإمام(عليه السلام) رسالة إلى هارون الرشيد أعرب فيها عن نقمته عليه، قال فيها: «إِنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتّى ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتّى نفنى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المُبطلون»(1).
وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام(عليه السلام) من الأسى في السجن، وأنّه سيحاكم الطاغية هارون الرشيد أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

سبب شهادته(عليه السلام)


عهد هارون إلى السندي باغتيال الإمام(عليه السلام)، فدسّ له سُمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل(عليه السلام) منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: زِد على ذلك، فرمقه الإمام(عليه السلام) بطرفه وقال له: «حَسبُكَ، قد بَلغتُ ما تحتاجُ إليه»(2).
وتفاعل السمّ في بدنه(عليه السلام)، وأخذ يعاني الآلام القاسية، وقد حفّت به الشرطة القُساة، ولازمه السندي، وكان يُسمعه مُرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليُعجّل له النهاية المحتومة.

تشييعه(عليه السلام)


خرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان الإمام الكاظم(عليه السلام)، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع.
وسارت مواكب التشييع في شوارع بغداد وهي متّجهة إلى محلّة باب التبن وقد ساد عليها الحزن، حتّى انتهت إلى مقابر قريش في بغداد، فحُفِر للجثمان العظيم قبر فواروه فيه.

تاريخ شهادته(عليه السلام) ومكانها


25 رجب 183ﻫ، بغداد.

مكان دفنه(عليه السلام)


بغداد، الكاظمية.

من وصاياه(عليه السلام)


1ـ قال(عليه السلام): «وجدت علم الناس في أربع: أوّلها أن تعرف ربّك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك عن دينك»(3).
2ـ قال(عليه السلام): «أي فلان! اتّق الله وقل الحقّ وإن كان فيه هلاكك، فإنّ فيه نجاتك، أي فلان! اتّق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فإنّ فيه هلاكك»(4).
3ـ قال(عليه السلام): «المؤمن مثل كفّتي الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه»(5).

من أقوال الشعراء في شهادته(عليه السلام)


1ـ قال الشاعر الشيخ كاظم الهر:
وغريب بغداد ثوى في سجنه ** نائي الديار يُحلّ دار الهون
يلقى الذي لاقاه ممّا ساءه ** من كلّ همّاز هناك مهين
تبّت يدي السندي فيما جاءه ** ولسوف يُصلى في لظى سجّين
ولأيّ وجهٍ يُلطم الوجه الذي ** فاق البدور بغرّةٍ وجبين(6).
2ـ قال الشاعر السيّد مهدي الأعرجي(رحمه الله):
لهفي وهل يجدي أسى لهفي على ** موسى بن جعفر علّة الإيجاد
ما زال يُنقل في السجون معانياً ** عضّ القيود وثقل الأصفاد
قطع الرشيد عليه فرض صلاته ** قسراً وأظهر كامن الأحقاد
حتّى إليه دسّ سمّاً قاتلاً ** فأصاب أقصى منية ومراد
وضعوا على جسر الرصافة نعشه ** وعليه نادى بالهوان مناد
ــــــــــــــــــــــ
1ـ حياة الإمام الرضا 1/87.
2ـ عيون المعجزات: 95.
3ـ بحار الأنوار 75/328.
4ـ تحف العقول: 408.
5ـ المصدر السابق.
6ـ أعيان الشيعة 9/11.

أبناء الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام )

شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أنجب الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) ذرّية طاهرة من نسل طيّب ، فكانوا من خيرة أبناء المسلمين في عصره ، يتصفون بالتقوى والورع والخير والصلاح ، والابتعاد عن مآثم الحياة وأباطيلها .
لقد أنشأهم الإمام ( عليه السلام ) نشأة دينية خالصة ، ووجّههم وجهة صحيحة سليمة ، وسكب في نفوسهم الإيمان بالله ، والتفاني في سبيل العقيدة ، والعمل على قول كلمة الحق ، والقيام بها مهما كلّف الثمن .
قال ابن الصباغ : إنّ لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) فضلاً مشهوداً .
اختلف النسّابون في عدد أولاد الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) اختلافاً كثيراً ، منهم من قال : ثلاثة وثلاثون ، الذكور منهم 16 ، والإناث 17 .
ومنهم من قال : سبعة وثلاثون ، الذكور 18 ، والإناث 19 .
ومنهم من قال : ثمانية وثلاثون ، الذكور 20 ، والإناث 18 .
وقال الشيخ الطبرسي : كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى : علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، وإبراهيم والعباس والقاسم من أمهات متعدّدة .
وأحمد ، ومحمّد ، وحمزة من أم واحدة .
وإسماعيل ، وجعفر ، وهارون ، والحسن من أم واحدة .
وعبد الله ، وإسحاق ، وعبيد الله ، وزيد ، والحسن ، والفضل ، وسليمان من أمهات متعدّدة .
وفاطمة الكبرى ، وفاطمة الصغرى ، ورقية ، ومكّية ، وأم أبيها ، ورقية الصغرى ، وكلثم ، وأم جعفر ، ولبانة ، وزينب ، وخديجة ، وعلية ، وآمنة ، وحسنة ، وبريهة ، وعائشة ، وأم سلمة ، وميمونة ، وأم كلثوم من أمهات متعدّدة .
وكان أحمد بن موسى كريماً ورعاً ، وكان الإمام يحبّه ، فوهب له ضيعته المعروفة باليسيرية ، ويقال أنّه أعتق ألف مملوك .
وكان محمّد بن موسى ( عليه السلام ) شجاعاً كريماً ، وتقلّد الإمرة على اليمن في عهد المأمون ، من قبل محمّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، الذي بايعه أبو السرايا في الكوفة ، ومضى إليها ففتحها ، وأقام بها مدّة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان ، وأخذ الأمان من المأمون .
ولكل واحد من أبناء الإمام الكاظم ( عليه السلام ) فضل ومنقبة ، وكان الإمام الرضا مشهوراً بالتقدّم ونباهة القدر ، وعظم الشأن ، وجلالة المقام بين الخاص والعام .

سجن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ومحاولة اغتياله

ألقى أزلام الخليفة القبض على الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وأرسلوه مُقيداً إلى البصرة ، وقد وَكّل حسان السري بحراسته ، والمحافظة عليه .
وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي ، فدفع له الإمام ( عليه السلام ) كُتُباً ، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وعَرّفه بأنه ( عليه السلام ) الإمام من بعده .
وسارت القافلة تطوي البيداء ، حتى انتهت إلى البصرة – وذلك قبل التروية بيوم – .
فسلَّم حسّانُ الإمامَ ( عليه السلام ) إلى عيسى بن جعفر ، فحبسه في بيت من بيوت المحبس ، وأقفل عليه أبواب السجن .
وكان عيسى لا يفتحها إلا في حالتين ، إحداهما خروجه ( عليه السلام ) إلى الطهور ، والأخرى لإدخال الطعام إليه ( عليه السلام ) .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل ، ويقضي عامة وقته في الصلاة ، والسجود ، والدعاء ، وقراءة القرآن .
واعتبرَ تَفرّغَه للعبادة من نِعَم الله تعالى عليه ، فكما يقول ( عليه السلام ) : ( اللَّهم إنك تعلمُ أني كنتُ أسألك أن تُفرِّغَني لعبادتك ، اللَّهُم وقد فعلتَ ، فَلَكَ الحمدُ ) .

الإيعاز لعيسى باغتياله :

وأوعز هارون الرشيد إلى عيسى بن جعفر عامِلهُ على البصرة باغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، وثقل الأمر على عيسى .
فاستشار خَوَاصّه بذلك ، فمنعوه وخَوّفوه من عاقبة الأمر ، فاستجابَ لهم ، ورفع رسالة إلى هارون ، جاء فيها : ( يا أمير المؤمنين ، كُتِب إليّ في هذا الرجل ، وقد اختبرتُه طولَ مَقامِه بِمَن حبستُهُ مَعه عَيْناً عليه ، لينظروا حيلته وأمره وطويته ، ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم .
فلم يكن منه سُوءٌ قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تَطلّع إلى ولدية ، ولا خروج ، ولا شيء من أمر الدنيا .
ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفّذ من يتسلّمه مِني ، وإلا سَرّحت سبيله ، فإني منه في غاية الحرج ) .
ودلت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، وقد بقي في سجنه سنة كاملة .

سجنه في بغداد :

واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى ، فأمره بحمل الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد ، فَحُمِل إليها تحفّ به الشرطة والحرس .
ولما انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه ( عليه السلام ) عند الفضل بن الربيع ، فأخذ الفضل وحبسه في بيته ، ولم يحبسه في السجون العامة ، وذلك لسمو مكانة الإمام ( عليه السلام ) ، وعظم شخصيته ، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام .
واقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، وقد بهر الفضل بعبادته ، فقد روى عبد الله القزويني قال : دخلتُ على الفضل بن الربيع ، وهو جالس على سطح داره فقال لي : أُدنُ مني ، فَدنوتُ حتى حَاذَيتُه ، ثم قال لي : اشرفْ على الدار .
فأشرفتُ على الدار ، فقال لي الفضل : ما ترى في البيت ؟
فقلت : أرى ثوباً مطروحاً .
فقال الفضل : انظر حسناً .
فتأملت ونظرتُ مليّاً فقلتُ : رجل ساجد .
فقال الفضل : هل تعرفه ؟
فقلتُ : لا .
فقال : هذا مولاك .
فقلت : من مولاي ؟
فقال : تتجاهلُ عَلَيّ ؟
فقلت : ما أتجاهل ، ولكن لا أعرف لي مولى .
فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر .
وكان عبد الله ممن يدين بإمامته ( عليه السلام ) .
وأخذ الفضل يحدثني عن عبادته قائلاً : إني أَتَفَقّده الليل والنهار ، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أُخبِرُك بها : إنه يصلي الفجر ، فَيُعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس .
وقد وكّل من يترصد له الزوال ، فلستُ أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ يَثِبُ فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فاعلم أنه لم يَنَم في سجوده ولا أغفى .
فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سَجَد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة .
فإذا صلى العتمة افطر على شِوىً يُؤتَى به ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة .
ثم يقوم فَيُجدد الوضوء ثم يقوم ، فلا يزال يصلي حتى يطلع الفجر ، فلستُ أدري متى يقول الغلام : إن الفجر قد طلع ، إذ قد وَثِبَ هو لصلاة الفجر .
فهذا دأبه منذُ حَولٍ لي .
فهكذا كان الإمام ( عليه السلام ) ، قد طبع على قلبه حُبّ الله تعالى ، وهام بعبادته وطاعته .
ولما رأى عبد الله الفضل للإمام حَذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له :
اتّقِ الله ، ولا تُحدث في أمرِهِ حَدَثاً يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم أنه لم يفعل أحدٌ سوءاً إلا كانت نعمتُهُ زائلة .
فانبرى الفضل يؤيد ما قاله عبد الله قائلاً : قد أرسلوا إِليّ غير مَرّة يأمرونني بقتله ( عليه السلام ) فلم أُجِبهِم إلى ذلك .
فقد خاف الفضلُ من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام ( عليه السلام ) ، وأعرض عن ذلك .